ريب أنه إن كان لنا فيما ورد من قصص في كتاب الله عظة وعبرة وحكمة ومعرفة
لما سلف من أخبار وأحوال الأمم والأقوام فلنا في توافق وانسجام خبر هذا
القصص مع الحقيقة التاريخية معجزة ظاهرة وبيان واضح علي صحة وصدق خبر
القرآن، يقول تعالي: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي
الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي
بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ [يوسف/111] وقد خص القران الكريم مصر بالذكر أو بالإشارة في
مواطن كثيرة فتارةً في قصة موسي علية السلام مع الفرعون، وأخري في قصة يوسف
علية السلام وهو ما سنحاول أن نبسط فيه الشيء اليسير وفيما يتجلي لنا من
قصته الكريمة مع ملك مصر، وما يَظهر من دقة رده في حواره مع هذا الملك في
كتاب الله حين قال «أجعلني علي خزائن الأرض»، وما يحمله هذا الرد من دلالات
وأمارات ظاهرة لوصف حال وشؤون ذاك الزمان، وسنستذكر بداية من سورة يوسف
رؤيا ملك مصر وما حصل مع نبي الله يوسف علية السلام: وَقَالَ الْمَلِكُ
إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ
وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ
أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُوا
أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ *
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا
أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ
أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ
وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى
النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ
دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا
تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ
يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ *
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ
يَعْصِرُونَ [يوسف/43-49] وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ
لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ
أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ
عَلِيمٌ [يوسف/54-55] وهذه الرؤيا السالفة الذكر الواردة في الآيات الكريمة
كانت من جملة أسباب خروج يوسف عليه السلام من السجن على وجه الاحترام
والإكرام، يقول أبن كثير في تفسيره: يقول تعالى إخبارا عن الملك حين تحقق
براءة يوسف عليه السلام ونزاهة عرضه مما نسب إليه قال «ائتوني به أستخلصه
لنفسي» أي أجعله من خاصتي وأهل مشورتي «فلما كلمه» أي خاطبه الملك وعرفه
ورأى فضله وبراعته وعلم ما هو عليه من خلق وخلق وكمال قال له الملك «إنك
اليوم لدينا مكين أمين» أي إنك عندنا قد بقيت ذا مكانة وأمانة فقال يوسف
عليه السلام «اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم» [1]، ومن تفسير سيدنا
يوسف علية السلام لرؤيا الملك المتعلقة بسنوات الجدب السبعة ومن القرآن في
قوله «قال تزرعون» نفهم أن مجتمع مصر القديم كان مجتمعاً زراعياً وأن
السنوات السبع العجاف ستلحق الضرر الكبير بالمحاصيل والغلال، وفي رد يوسف
علية السلام أجعلني علي خزائن الأرض، في هذا الطلب أشارة واضحة منه لتوليته
علي خزائن موجودة وهذا يشير إلي حقيقة تاريخية تطرقت لها علوم الآثار
والتاريخ الحديث وكما سنذكر ونفصل لاحقاً أنشاء الله في كون أن هذه الحضارة
الشاسعة والممتدة لأكثر من ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد والتي ما طفقت
تَتَكشف أسرارها كل يوم، كانت متطورة أدارياً وفيما يتعلق بخزن وإحصاء
وتصريف المنتوج الزراعي وهذا الذي يشرح لنا حديثاً قيام حضارة ومستوطنات
بشرية علي رقعة واسعة من الأرض ولفترة زمنية طويلة. يورد الراغب الأصفهاني
في معني كلمة خزن ما يلي: الخزن حفظ الشيء في الخزانة، ثم يعبر به عن كل
حفظ كحفظ السر ونحوه، وقوله تعالى: «وإن من شيء إلا عندنا
خزائنه»[الحجر/21]، «ولله خزائن السموات والأرض» [المنافقون/7]، فإشارة منه
إلى قدرته تعالى على ما يريد إيجاده [2]. ويزيد القرطبي في تفسيره للآية
من سورة يوسف قوله تعالى: «قال اجعلني على خزائن الأرض» قال سعيد بن منصور:
سمعت مالك بن أنس يقول: مصر خزانة الأرض؛ أما سمعت إلى قوله: «اجعلني على
خزائن الأرض» أي على حفظها، فحذف المضاف. «إني حفيظ» لما وليت «عليم»
بأمره. وفي التفسير: إني حاسب كاتب؛ وأنه أول من كتب في القراطيس. وقيل:
«حفيظ» لتقدير الأقوات «عليم» بسني المجاعات [3].
وفي المقارنة بين
ما يقوله القرآن الكريم وما يتحدث عنه علم الآثار والتاريخ عن هذه الحضارة
والتي تمتلك أطول تاريخ مستمر لدولة في العالم لما يزيد عن 3000 عام قبل
الميلاد، نجد التطابق التام بين ما أخبر عنه القرآن وما أكدته الكشوف
الحديثة ذلك أن مصر تميزت بوجود نهر النيل الذي يشق أراضيها من الشمال إلي
الجنوب و الذي يعتبر مصدر المياه الأساسي والذي ساعد علي نمو التجمعات
الحضرية والعمرانية حوله فقد وفر الأراضي والمياه اللازمة للزراعة والشرب
وكذلك عمل كشريان مواصلات ساعد علي تسهيل التجارة وربط أراضي مصر، وإذا
أضفنا لنهر النيل الموقع الجغرافي واعتدال المناخ النسبي والعامل الإنساني
والاستقرار السياسي إلي وفرة المياه فإن كل هذه العوامل أدت إلى قيام حضارة
عرفت بأنها من أطول وأقدم الحضارات لدولة اشتملت في مسيرتها علي ثلاثين
أسرة حاكمة مقسمة علي ثلاث ممالك هي المملكة القديمة والمملكة الوسطي
والمملكة الحديثة [4].
وعلي الرغم من صعوبة معرفة الهيئة التخطيطية
والأحوال التي كانت عليها المدن المصرية القديمة ومن ثم فهم أنظمة وسبل
العيش فيها، من حيث أن المستوطنات البشرية في فترة الحضارة المصرية الأولي
غالباً ما كانت تختفي بفعل العوامل البيئية والفيضانات السنوية لنهر النيل
وحتى المدن في الفترات الأحدث من الحضارة المصرية لا يظهر فيها تقسيم
الوحدات والمستوطنات السكنية أو القصور بشكل واضح بقدر ما تظهر فيها
المقابر و المعابد بسبب الاعتقاد في الحياة بعد الموت والتركيز علي منشآت
المقابر والمعابد، إلا أنة قد ظهرت في المجتمع المصري القديم أنواع وأشكال
منظمة من التجمعات والمستوطنات الحضرية وحسب مقومات وحاجة المجتمع وكما
أوردت لنا دراسات وكشوف علم الآثار والتي لازالت تحمل لنا الكثير حول هذا
الفصل من التاريخ، وفي مصر القديمة وكمثال علي تعدد الأنشطة الحضرية يمكننا
أن نميز علي سبيل المثال مستوطنات بشرية وقري بل وحتى مدن كاملة مخصصة
لإقامة طبقات العمال والحرفيين العاملين في مشاريع المقابر والتي تسمي
Workman’s Cities، كذلك مدن وتجمعات مقدسة كاملة بغرض العبادة Holy Cities،
كمدينة الهيلوبوليس والتي تقع في عين شمس شمال شرق القاهرة، كما وظهرت
أيضاً مدن متكاملة للأحياء وتجمعات أخري خاصة بالأموات [5].